فصل: الآية رقم ‏(‏ 69 ‏:‏ 71 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 65 ‏:‏ 66 ‏)‏

‏{‏ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون، بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون ‏}‏

قوله ‏{‏قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله‏}‏‏.‏ وعن بعضهم‏:‏ أخفى غيبه على الخلق، ولم يطلع عليه أحد لئلا يأمن أحد من عبيده مكره‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في المشركين حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة‏.‏ و‏{‏من‏}‏في موضع رفع؛ والمعنى‏:‏ قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله؛ فإنه بدل من ‏{‏من‏}‏قال الزجاج‏.‏ الفراء‏:‏ وإنما رفع ما بعد ‏{‏إلا‏}‏لأن ما قبلها جحد، كقوله‏:‏ ما ذهب أحد إلا أبوك؛ والمعنى واحد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومن نصب نصب على الاستثناء؛ يعني في الكلام‏.‏ قال النحاس‏:‏ وسمعته يحتج بهذه الآية على من صدق منجما؛ وقال‏:‏ أخاف أن يكفر بهذه الآية‏.‏

قلت‏:‏ وقد مضى هذا في الأنعام مستوفى‏.‏ وقالت عائشة‏:‏ من زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية؛ والله تعالى يقول‏{‏قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ‏}‏ خرجه مسلم‏.‏ وروي أنه دخل على الحجاج منجم فاعتقله الحجاج، ثم أخذ حصيات فعدهن، ثم قال‏:‏ كم في يدي من حصاة ‏؟‏ فحسب المنجم ثم قال‏:‏ كذا؛ فأصاب‏.‏ ثم اعتقله فأخذ حصيات لم يعدهن فقال‏:‏ كم في يدي ‏؟‏ فحسب فأخطأ ثم حسب فأخطأ؛ ثم قال‏:‏ أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها؛ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فإني لا أصيب‏.‏ قال‏:‏ فما الفرق‏؟‏ قال‏:‏ إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب، وهذا لم تحصه فهو غيب و‏{‏لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله‏}‏وقد مضى هذا في آل عمران

قوله ‏{‏بل ادارك علمهم في الآخرة‏}‏هذه قراءة أكثر الناس منهم عاصم وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي‏.‏ وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد‏}‏بل أدرك‏}‏من الإدراك‏.‏ وقرأ عطاء بن يسار وأخوه سليمان بن يسار والأعمش‏}‏بل ادَّرك‏}‏غير مهموز مشددا‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏}‏بل أأدرك‏}‏على الاستفهام‏.‏ وقرأ ابن عباس‏}‏بلى‏}‏بإثبات الياء ‏{‏أدَّارك‏}‏بهمزة قطع والدال مشددة وألف بعدها؛ قال النحاس‏:‏ وإسناده إسناد صحيح، هو من حديث شعبة يرفعه إلى ابن عباس‏.‏ وزعم هارون القارئ أن قراءة أُبي ‏{‏بل تدارك علمهم‏}‏وحكى الثعلبي أنها في حرف أُبَي أم تدارك‏.‏ والعرب تضع بل موضع أم وأم موضع بل إذا كان في أول الكلام استفهام؛ كقول الشاعر‏:‏

فوالله لا أدري أسلمى تقولت أم القول أم كل إلي حبيب

أي بل كل‏.‏ قال النحاس‏:‏ القراءة الأولى والأخيرة معناهما واحد، لأن أصل ‏{‏ادارك‏}‏تدارك؛ أدغمت الدال في التاء وجيء بألف الوصل؛ وفي معناه قولان‏:‏ أحدهما أن المعنى بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به‏.‏ والقول الآخر أن المعنى‏:‏ بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة؛ فقالوا تكون وقالوا لا تكون‏.‏ القراءة الثانية فيها أيضا قولان‏:‏ أحدهما أن معناه كمل في الآخرة؛ وهو مثل الأول؛ قال مجاهد‏:‏ معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم؛ لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين‏.‏ والقول الآخر أنه على معنى الإنكار؛ وهو مذهب أبي إسحاق؛ واستدل على صحة هذا القول بأن بعده ‏{‏بل هم منها عمون‏}‏أي لم يدرك علمهم علم الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم‏.‏ والقراءة الثالثة‏}‏بل ادرك‏}‏فهي بمعنى ‏{‏بل ادارك‏}‏وقد يجيء افتعل وتفاعل بمعنى؛ ولذلك صحح ازدوجوا حين كان بمعنى تزاوجوا‏.‏ القراءة الرابعة‏:‏ ليس فيها إلا قول واحد يكون فيه معنى الإنكار؛ كما تقول‏:‏ أأنا قاتلتك‏؟‏‏!‏ فيكون المعنى لم يدرك؛ وعليه ترجع قراءة ابن عباس؛ قال ابن عباس‏}‏بلى أدارك علمهم في الآخرة‏}‏أي لم يدرك‏.‏ قال الفراء‏:‏ وهو قول حسن كأنه وجهه إلى الاستهزاء بالمكذبين بالبعث، كقولك لرجل تكذبه‏:‏ بلى لعمري قد أدركت السلف فأنت تروي ما لا أروي وأنت تكذبه‏.‏ وقراءة سابعة‏}‏بلَ ادرك‏}‏بفتح اللام؛ عدل إلى الفتحة لخفتها‏.‏ وقد حكي نحو ذلك عن قطرب في ‏{‏قم الليل‏}‏فإنه عدل إلى الفتح‏.‏ وكذلك و‏{‏بع الثوب‏}‏ونحوه‏.‏ وذكر الزمخشري في الكتاب‏:‏ وقرئ ‏{‏بل أأدرك‏}‏بهمزتين ‏{‏بل آأدرك‏}‏بألف بينهما ‏{‏بلى أأدرك‏}‏‏{‏أم تدارك‏}‏‏{‏أم أدرك‏}‏فهذه ثنتا عشرة قراءة، ثم أخذ يعلل وجوه القراءات وقال‏:‏ فإن قلت فما وجه قراءة ‏{‏بل أأدرك‏}‏على الاستفهام ‏؟‏ قلت‏:‏ هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك من قرأ‏:‏ أم أدرك‏}‏و‏{‏أم تدارك‏}‏لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة، وأما من قرأ‏}‏بلى أأدرك‏}‏على الاستفهام فمعناه بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور وقت كونها؛ لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن‏.‏ ‏{‏في الآخرة‏}‏في شأن الآخرة ومعناها‏.‏ ‏{‏بل هم في شك منها‏}‏أي في الدنيا‏.‏ ‏{‏بل هم منها عمون‏}‏أي بقلوبهم واحدهم عمو‏.‏ وقيل‏:‏ عم، وأصله عميون حذفت الياء لالتقاء الساكنين ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 67 ‏:‏ 68 ‏)‏

‏{‏ وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون، لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين ‏}‏

قوله ‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏يعني مشركي مكة‏.‏ ‏{‏إذا كنا ترابا وآباؤنا آينا لمخرجون‏}‏هكذا يقرأ نافع هنا وفي سورة‏:‏ ‏[‏العنكبوت‏]‏‏.‏ وقرأ أبو عمرو باستفهامين إلا أنه خفف الهمزة‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة أيضا باستفهامين إلا أنهما حققا الهمزتين، وكل ما ذكرناه في السورتين جميعا واحد‏.‏ وقرأ الكسائي وابن عامر ورويس ويعقوب‏}‏أئذا‏}‏بمهزتين ‏{‏إننا‏}‏بنونين على الخبر في هذه السورة؛ وفي سورة‏:‏ ‏[‏العنكبوت‏]‏ باستفهامين؛ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ القراءة ‏{‏إذا كنا ترابا وآباؤنا آينا لمخرجون‏}‏موافقة للخط حسنة، وقد عارض فيها أبو حاتم فقال وهذا معنى كلامه‏}‏إذا‏}‏ليس باستفهام و‏{‏آينا‏}‏استفهام وفيه ‏{‏إن‏}‏فكيف يجوز أن يعمل ما في حيز الاستفهام فيما قبله‏؟‏ ‏!‏ وكيف يجوز أن يعمل ما بعد ‏{‏إن‏}‏فيما قبلها‏؟‏‏!‏ وكيف يجوز غدا إن زيدا خارج‏؟‏ ‏!‏ فإذا كان فيه استفهام كان أبعد، وهذا إذا سئل عنه كان مشكلا لما ذكره‏.‏ وقال أبو جعفر‏:‏ وسمعت محمد بن الوليد يقول‏:‏ سألنا أبا العباس عن آية من القرآن صعبة مشكلة، وهي قول الله ‏{‏وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد‏}‏ فقال‏:‏ إن عمل في ‏{‏إذا‏}‏‏{‏ينبئكم‏}‏كان محالا؛ لأنه لا ينبئهم ذلك الوقت، وإن عمل فيه ما بعد ‏{‏إن‏}‏كان المعنى صحيحا وكان خطأ في العربية أن يعمل ما قبل ‏{‏إن‏}‏فيما بعدها؛ وهذا سؤال بين رأيت أن يذكر في السورة التي هو فيها؛ فأما أبو عبيد فمال إلى قراءة نافع ورد على من جمع بين استفهامين، واستدل بقوله ‏{‏أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم‏}‏ وبقوله ‏{‏أفإن مت فهم الخالدون‏}‏ وهذا الرد على أبي عمرو وعاصم وحمزة وطلحة والأعرج لا يلزم منه شيء، ولا يشبه ما جاء به من الآية شيئا؛ والفرق بنهما أن الشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد؛ ومعنى ‏}‏أفإن مت فهم الخالدون‏}‏ أفإن مت خلدوا‏.‏ ونظير هذا‏:‏ أزيد منطلق، ولا يقال‏:‏ أزيد أمنطلق؛ لأنها بمنزلة شيء واحد وليس كذلك الآية؛ لأن الثاني جملة قائمة بنفسها فيصلح فيها الاستفهام، والأول كلام يصلح فيه الاستفهام؛ فأما من حذف الاستفهام من الثاني وأثبته في الأول فقرأ‏}‏أئذا كنا ترابا وآباؤنا إننا‏}‏فحذفه من الثاني؛ لأن في الكلام دليلا عليه بمعنى الإنكار‏.‏ ‏{‏لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين‏}‏تقدم‏.‏ وكانت الأنبياء يقربون أمر البعث مبالغة في التحذير؛ وكل ما هو آت فقريب

 الآية رقم ‏(‏ 69 ‏:‏ 71 ‏)‏

‏{‏قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين، ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ‏}‏

قوله ‏{‏قل سيروا في الأرض‏}‏أي ‏{‏قل‏}‏لهؤلاء الكفار ‏{‏سيروا‏}‏في بلاد الشام والحجاز واليمن‏.‏ ‏{‏فانظروا‏}‏أي بقلوبكم وبصائركم ‏{‏كيف كان عاقبة المجرمين‏}‏المكذبين لرسلهم‏.‏ ‏{‏ولا تحزن عليهم‏}‏أي على كفار مكة إن لم يؤمنوا ‏{‏ولا تكن في ضيق‏}‏في حرج، وقرئ‏}‏في ضيق‏}‏بالكسر وقد مضى في آخر النحل ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد‏}‏أي وقت يجيئنا العذاب بتكذيبنا ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 72 ‏:‏ 75 ‏)‏

‏{‏ قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون، وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون، وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ‏}‏

قوله ‏{‏قل عسى أن يكون ردف لكم‏}‏أي اقترب لكم ودنا منكم ‏{‏بعض الذي تستعجلون‏}‏أي من العذاب؛ قال ابن عباس‏.‏ وهو من ردفه إذا تبعه وجاء في أثره؛ وتكون اللام أدخلت لأن المعنى اقترب لكم ودنا لكم‏.‏ أو تكون متعلقة بالمصدر‏.‏ وقيل‏:‏ معناه معكم‏.‏ وقال ابن شجرة‏:‏ تبعكم؛ ومنه ردف المرأة؛ لأنه تبع لها من خلفها؛ ومنه قول أبي ذؤيب‏:‏

عاد السواد بياضا في مفارقه لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردفا

قال الجوهري‏:‏ وأردفه أمر لغة في ردفه، مثل تبعه وأتبعه بمعنى؛ قال خزيمة بن مالك بن نهد‏:‏

إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا

يعني فاطمة بنت يذكر بن عنزة أحد القارظين‏.‏ وقال الفراء‏}‏ردف لكم‏}‏دنا لكم ولهذاقال ‏{‏لكم‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ ردفه وردف له بمعنى فتزاد اللام للتوكيد؛ عن الفراء أيضا‏.‏ كما تقول‏:‏ نقدته ونقدت له، وكلته ووزنته، وكلت له ووزنت له؛ ونحو ذلك‏.‏ ‏{‏بعض الذي تستعجلون‏}‏من العذاب فكان ذلك يوم بدر‏.‏ وقيل‏:‏ عذاب القبر‏.‏ ‏{‏وإن ربك لذو فضل على الناس‏}‏في تأخير العقوبة وإدرار الرزق ‏{‏ولكن أكثرهم لا يشكرون‏}‏ فضله ونعمه‏.‏

قوله ‏{‏وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم‏}‏أي تخفي صدورهم ‏{‏وما يعلنون‏}‏يظهرون من الأمور‏.‏ وقرأ ابن محيصن وحميد‏}‏ما تكن‏}‏من كننت الشيء إذا سترته هنا‏.‏ وفي القصص تقديره‏:‏ ما تكن صدورهم عليه؛ وكأن الضمير الذي في الصدور كالجسم السائر‏.‏ ومن قرأ‏}‏تكن‏}‏فهو المعروف؛ يقال‏:‏ أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك‏.‏

قوله ‏{‏وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين‏}‏قال الحسن‏:‏ الغائبة هنا القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض؛ حكاه النقاش‏.‏ وقال ابن شجرة‏:‏ الغائبة هنا جميع ما أخفى الله تعالى عن خلقه وغيبه عنهم، وهذا عام‏.‏ وإنما دخلت الهاء في ‏{‏غائبة‏}‏إشارة إلى الجمع؛ أي‏.‏ ما من خصلة غائبة عن الخلق إلا والله عالم بها قد أثبتها في أم الكتاب عنده، فكيف يخفى عليه ما يسر هؤلاء وما يعلنونه‏.‏ وقيل‏:‏ أي كل شيء هو مثبت في أم الكتاب يخرجه للأجل المؤجل له؛ فالذي يستعجلونه من العذاب له أجل مضروب لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه‏.‏ والكتاب اللوح المحفوظ أثبت الله فيه ما أراد ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 76 ‏:‏ 81 ‏)‏

‏{‏ إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين، إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم، فتوكل على الله إنك على الحق المبين، إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ‏}‏

قوله ‏{‏إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون‏}‏وذلك أنهم اختلفوا في كثير من الأشياء حتى لعن بعضهم فنزلت‏.‏ والمعنى‏:‏ إن هذا القرآن يبين لهم ما اختلفوا فيه لو أخذوا به، وذلك ما حرفوه من التوراة والإنجيل، وما سقط من كتبهم من الأحكام‏.‏ ‏{‏وإنه‏}‏يعني القرآن ‏{‏لهدى ورحمة للمؤمنين‏}‏خص المؤمنين لأنهم المنتفعون به‏.‏ ‏{‏إن ربك يقضي بينهم بحكمه‏}‏أي يقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه في الآخرة، فيجازي المحق والمبطل‏.‏ وقيل‏:‏ يقضي بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه‏.‏ ‏{‏وهو العزيز‏}‏المنيع الغالب الذي لا يرد أمره ‏{‏العليم‏}‏الذي لا يخفى عليه شيء‏.‏

قوله ‏{‏فتوكل على الله‏}‏أي فوض إليه أمرك واعتمد عليه؛ فإنه ناصرك‏.‏ ‏{‏إنك على الحق المبين‏}‏أي الظاهر‏.‏ وقيل‏:‏ المظهر لمن تدبر وجه الصواب‏.‏ ‏{‏إنك لا تسمع الموتى‏}‏يعني الكفار لتركهم التدبر؛ فهم كالموتى لا حس لهم ولا عقل‏.‏ وقيل‏:‏ هذا فيمن علم أنه لا يؤمن‏.‏ ‏{‏ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين‏}‏يعني الكفار الذين هم بمنزلة الصم عن قبول المواعظ؛ فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولوا كأنهم لا يسمعون؛ نظيره ‏}‏صم بكم عمي‏} ‏ كما تقدم‏.‏ وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبي إسحاق وعباس عن أبي عمرو‏}‏ولا يسمع‏}‏بفتح الياء والميم ‏{‏الصم‏}‏رفعا على الفاعل‏.‏ الباقون ‏{‏تسمع‏}‏مضارع أسمعت ‏{‏الصم‏}‏نصبا‏.‏

 مسألة‏:‏

وقد احتجت عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسمع موتى بدر بهذه الآية؛ فنظرت في الأمر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية‏.‏ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما أنتم بأسمع منهم‏)‏ قال ابن عطية‏:‏ فيشبه أن قصة بدر خرق عادة لمحمد صلى الله عليه وسلم في أن رد الله إليهم إدراكا سمعوا به مقاله ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة، وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين‏.‏

قلت‏:‏ ‏"‏روى البخاري‏"‏ رضي الله عنه؛ حدثني عبدالله بن محمد سمع روح بن عبادة قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى وتبعه أصحابه، قالوا‏:‏ ما نُرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفير الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؛ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؛ قال فقال عمر‏:‏ يا رسول الله ما تكلم من أجسام لا أرواح لها؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏)‏ قال قتادة‏:‏ أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما‏.‏ ‏"‏خرجه مسلم أيضا‏"‏‏.‏ قال البخاري‏:‏ حدثنا عثمان قال حدثنا عبدة عن هشام عن أبيه عن ابن عمر قال‏:‏ وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال‏:‏ ‏(‏هل وجدتم ما وعد ربكم حقا‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق‏)‏ ثم قرأت ‏{‏إنك لا تسمع الموتى‏}‏حتى قرأت الآية‏.‏ وقد عورضت هذه الآية بقصة بدر وبالسلام على القبور، وبما روي في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات، وبأن الميت يسمع قرع النعال إذا انصرفوا عنه، إلى غير ذلك؛ فلو لم يسمع الميت لم يُسلَم عليه‏.‏ وهذا واضح وقد بيناه في كتاب التذكرة

قوله ‏{‏وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم‏}‏أي كفرهم؛ أي ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم‏.‏ وقرأ حمزة‏}‏وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم‏}‏كقوله ‏{‏أفأنت تهدي العمي‏}‏‏.‏ الباقون‏:‏ بهادي العمي وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وفي الروم مثله‏.‏ وكلهم وقف على بهادي بالياء في هذه السورة وبغير ياء في الروم اتباعا للمصحف، إلا يعقوب فإنه وقف فيهما جميعا بالياء‏.‏ وأجاز الفراء وأبو حاتم‏:‏ وما أنت بهاد العمي وهي الأصل‏.‏ وفي حرف عبدالله ‏{‏وما أن تهدي العمي‏}‏‏.‏ ‏{‏إن تسمع‏}‏أي ما تسمع‏.‏ ‏{‏إلا من يؤمن بآياتنا‏}‏قال ابن عباس‏:‏ أي إلا من خلقته للسعادة فهم مخلصون في التوحيد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 82 ‏:‏ 86 ‏)‏

‏{‏ وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون، حتى إذا جاؤوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون، ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون، ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ‏}‏

قوله ‏{‏وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم‏}‏اختلف في معنى وقع القول وفي الدابة؛ فقيل‏:‏ معنى ‏{‏وقع القول عليهم‏}‏وجب الغضب عليهم؛ قاله قتادة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أي حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون‏.‏ وقال ابن عمر وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما‏:‏ إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم‏.‏ وقال عبدالله بن مسعود‏:‏ وقع القول يكون بموت العلماء، وذهاب العلم، ورفع القرآن‏.‏ قال عبدالله‏:‏ أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع، قالوا هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال ‏؟‏ قال‏:‏ يسرى عليه ليلا فيصبحون منه قفرا، وينسون لا إله إلا الله، ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم، وذلك حين يقع القول عليهم‏.‏

قلت‏:‏ أسنده أبو بكر البزار قال حدثنا عبدالله بن يوسف الثقفي قال حدثنا عبدالمجيد بن عبدالعزيز عن موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ابن لعبدالله بن مسعود رضى الله عنه عن أبيه أنه قال‏:‏ أكثروا من زيارة هذا البيت من قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه؛ وأكثروا تلاوة القرآن من قبل أن يرفع؛ قالوا‏:‏ يا أبا عبدالرحمن هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال ‏؟‏ قال‏:‏ فيصبحون فيقولون كنا نتكلم بكلام ونقول قولا فيرجعون إلى شعر الجاهلية وأحاديث الجاهلية، وذلك حين يقع القول عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ القول هو قوله ‏{‏ولكن حق القول مني لأملأن جهنم‏} ‏ فوقوع القول وجوب العقاب على هؤلاء، فإذا صاروا إلى حد لا تقبل توبتهم ولا يولد لهم ولد مؤمن فحينئذ تقوم القيامة؛ ذكره القشيري‏.‏ وقول سادس‏:‏ قالت حفصه بنت سيرين سألت أبا العالية عن قول الله ‏{‏وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم‏}‏فقال‏:‏ أوحى الله إلى نوح ‏{‏إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏} ‏ وكأنما كان على وجهي غطاء فكشف‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا من حسن الجواب؛ لأن الناس ممتحنون ومؤخرون لأن فيهم مؤمنين وصالحين، ومن قد علم الله عز وجل أنه سيؤمن ويتوب؛ فلهذا أمهلوا وأمرنا بأخذ الجزية، فإذا زال هذا وجب القول عليهم، فصاروا كقوم نوح حين قال الله ‏{‏إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏} ‏ ‏.‏

قلت‏:‏ وجميع الأقوال عند التأمل ترجع إلى معنى واحد‏.‏ والدليل عليه آخر الآية ‏{‏إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون‏}‏وقرئ‏}‏أن‏}‏‏:‏ بفتح الهمزة وسيأتي‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض‏)‏ وقد مضى‏.‏ واختلف في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافا كثيرا؛ قد ذكرناه في كتاب التذكرة ونذكره هنا إن شاء الله تعالى مستوفى‏.‏ فأول الأقوال أنه فصيل ناقة صالح وهو أصحها - والله أعلم - لما ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة قال‏:‏ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال‏:‏ ‏(‏لها ثلاث خرجات من الدهر فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم تكمن زمانا طويلا ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشو ذكرها في البادية ويدخل ذكرها القرية‏)‏ يعني مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب فأرفض الناس منها شتى ومعا وتثبت عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لم يعجزوا الله فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي فتقبل عليه فتسمه في وجهه ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال ويصطلحون في الأمصار يعرف المؤمن من الكافر حتى إن المؤمن يقول يا كافر اقض حقي‏)‏‏.‏ وموضع الدليل من هذا الحديث أنه الفصيل قوله‏:‏ ‏(‏وهي ترغو‏)‏ والرغاء إنما هو للإبل؛ وذلك أن الفصيل لما قتلت الناقة هرب فانفتح له حجر فدخل في جوفه ثم أنطبق عليه، فهو فيه حتى يخرج بإذن الله عز وجل‏.‏ وروي أنها دابة مزغبة شعراء، ذات قوائم طولها ستون ذراعا، ويقال إنها الجساسة؛ وهو قول عبدالله بن عمر وروي عن ابن عمر أنها على خلقة الآدميين؛ وهي في السحاب وقوائها في الأرض‏.‏ وروي أنها جمعت من خلق كل حيوان‏.‏ وذكر الماوردي والثعلبي رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصل ومفصل اثنا عشر ذراعا - الزمخشري‏:‏ بذراع آدم عليه السلام - ويخرج معها عصا موسى وخاتم سليمان، فتنكت في وجه المسلم بعصا موسى نكتة بيضاء فيبيض وجهه، وتنكت في وجه الكافر بخاتم سليمان عليه السلام فيسود وجهه؛ قاله ابن الزبير رضي الله عنهما‏.‏ وفي كتاب النقاش عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إن الدابة الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة‏.‏ وحكى الماوردي عن محمد بن كعب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن الدابة فقال‏:‏ أما والله ما لها ذنب وإن لها للحية‏.‏ قال الماوردي‏:‏ وفي هذا القول منه إشارة إلى أنها من الإنس وإن لم يصرح به‏.‏

قلت‏:‏ ولهذا - والله أعلم - قال بعض المتأخرين من المفسرين‏:‏ إن الأقرب أن تكون هذه الدابة إنسانا متكلما يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم لينقطعوا، فيهلك من هلك عن بينة‏:‏ ويحيا من حي عن بينة‏.‏ قال شيخنا الإمام أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي في كتاب المفهم له‏:‏ وإنما كان عند هذا القائل الأقرب لقوله ‏{‏تكلمهم‏}‏وعلى هذا فلا يكون في هذه الدابة آية خاصة خارقة للعادة، ولا يكون من العشر الآيات المذكورة في الحديث؛ لأن وجود المناظرين والمحتجين على أهل البدع كثير، فلا آية خاصة بها فلا ينبغي أن تذكر مع العشر، وترتقع خصوصية وجودها إذا وقع القول، ثم فيه العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر الفاضل العالم الذي على أهل الأرض أن يسموه باسم الإنسان أو بالعالم أو بالإمام إلى أن يسمى بدابة؛ وهذا خروج عن عادة الفصحاء، وعن تعظيم العلماء، وليس ذلك دأب العقلاء؛ فالأولى ما قاله أهل التفسير، والله أعلم بحقائق الأمور‏.‏

قلت‏:‏ قد رفع الإشكال في هذه الدابة ما ذكرناه من حديث حذيفة فليعتمد عليه، واختلف من أي موضع تخرج، فقال عبدالله بن عمر‏:‏ تخرج من جبل الصفا بمكة؛ يتصدع فتخرج منه‏.‏ قال عبدالله ابن عمرو نحوه وقال‏:‏ لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت وروي في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الأرض تنشق عن الدابة وعيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون من ناحية المسعى وإنها تخرج من الصفا فتسم بين عيني المؤمن هو مؤمن سمة كأنها كوكب دري وتسم بين عيني الكافر نكتة سوداء كافر‏)‏ وذكر في الخبر أنها ذات وبر وريش؛ ذكره المهدوي‏.‏ وعن ابن عباس أنها تخرج من شعب فتمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض لم تخرجا، وتخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام‏.‏ وعن حذيفة‏:‏ تخرج ثلاث خرجات؛ خرجة في بعض البوادي ثم تكمن، وخرجة في القرى يتقاتل فيها الأمراء حتى تكثر الدماء، وخرجة من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها وأفضلها الزمخشري‏:‏ تخرج من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد؛ فقوم يهربون، وقوم يقفون نظارة‏.‏ وروي عن قتادة أنها تخرج في تهامة‏.‏ وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث فار تنور نوح عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ من أرض الطائف؛ قال أبو قبيل‏:‏ ضرب عبدالله بن عمرو أرض الطائف برجله وقال‏:‏ من هنا تخرج الدابة التي تكلم الناس وقيل‏:‏ من بعض أودية تهامة؛ قال ابن عباس وقيل‏:‏ من صخرة من شعب أجياد؛ قال عبدالله بن عمرو‏.‏ وقيل‏:‏ من بحر سدوم؛ قال وهب بن منبه‏.‏ ذكر هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة الماوردي في كتابه‏.‏ وذكر البغوي أبو القاسم عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز قال‏:‏ حدثنا علي بن الجعد عن فضيل بن مرزوق الرقاشي الأغر - وسئل عنه يحيى بن معين فقال ثقة - عن عطية العوفي عن ابن عمر قال تخرج الدابة من صدع في الكعبة كجري الفرس ثلاثة أيام لا يخرج ثلثها‏.‏

قلت‏:‏ فهذه أقوال الصحابة والتابعي في خروج الدابة وصفتها، وهي ترد قول من قال من المفسرين‏:‏ إن الدابة إنما هي إنسان متكلم يناظر أهل البدع والكفر وقد روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم‏)‏ ذكره الماوردي‏.‏ ‏{‏تكلمهم‏}‏بضم التاء وشد اللام المكسورة - من الكلام - قراءة العامة؛ يدل عليه قراءة أُبي ‏{‏تنبئهم‏}‏‏.‏ وقال السدي‏:‏ تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ تكلمهم بما يسوءهم‏.‏ وقيل‏:‏ تكلمهم بلسان ذلق فتقول بصوت يسمعه عن قرب وبعد ‏{‏إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون‏}‏وتقول‏:‏ ألا لعنة الله على الظالمين‏.‏ وقرأ أبو زرعة وابن عباس والحسن وأبو رجاء‏}‏تَكْلِمُهم‏}‏بفتح التاء من الكلم وهو الجرح قال عكرمة‏:‏ أي تسمهم‏.‏ وقال أبو الجوزاء‏:‏ سألت ابن عباس عن هذه الآية ‏{‏تكلمهم‏}‏أو ‏{‏تكلمهم‏}‏‏؟‏ فقال‏:‏ هي والله تكلمهم وتكلمهم؛ تُكَلِّم المؤمن وتَكْلِم الكافر والفاجر أي تجرحه‏.‏ وقال أبو حاتم‏}‏تكلِّمهم‏}‏كما تقول تجرِّحهم؛ يذهب إلى أنه تكثير من ‏{‏تكلمهم‏}‏‏.‏ ‏{‏أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون‏}‏أي بخروجي؛ لأن خروجها من الآيات‏.‏ وقرأ الكوفيون وابن أبي إسحاق ويحيي‏}‏أن‏}‏بالفتح‏.‏ وقرأ أهل الحرمين وأهل الشام وأهل البصرة‏}‏إن‏}‏بكسر الهمزة‏.‏ قال النحاس‏:‏ في المفتوحة قولان وكذا المكسورة؛ قال الأخفش‏:‏ المعنى بأن وكذا قرأ ابن مسعود ‏{‏بأن‏}‏وقال أبو عبيدة‏:‏ موضعها نصب بوقوع الفعل عليها؛ أي تخبرهم أن الناس‏.‏ وقرأ الكسائي والفراء‏}‏إن الناس‏}‏بالكسر على الاستئناف وقال الأخفش‏:‏ هي بمعنى تقول إن الناس؛ يعني الكفار ‏{‏بآياتنا لا يوقنون‏}‏يعني بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك حين لا يقبل الله من كافر إيمانا ولم يبق إلا مؤمنون وكافرون في علم الله قبل خروجها؛ والله أعلم‏.‏

قوله ‏{‏ويوم نحشر من كل أمة فوجا‏}‏أي رمزة وجماعة‏.‏ ‏{‏ممن يكذب بآياتنا‏}‏يعني بالقرآن وبأعلامنا الدالة على الحق‏.‏ ‏{‏فهم يوزعون‏}‏أي يدفعون ويساقون إلى موضع الحساب‏.‏ قال الشماخ‏:‏

وكم وزعنا من خميس جحفل وكم حبونا من رئيس مسحل

وقال قتادة‏}‏يوزعون‏}‏أي يرد أولهم على آخرهم‏.‏ ‏{‏حتى إذا جاؤوا قال‏}‏أي قال لهم الله ‏{‏أكذبتم بآياتي‏}‏التي أنزلتها على رسلي، وبالآيات التي أقمتها دلالة على توحيدي‏.‏ ‏{‏ولم تحيطوا بها علما‏}‏أي ببطلانها حتى تعرضوا عنها، بل كذبتهم جاهلين غير مستدلين‏.‏ ‏{‏أمَّاذا كنتم تعملون‏}‏تقريع وتوبيخ أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا ما فيها‏.‏ ‏{‏ووقع القول عليهم بما ظلموا‏}‏أي وجب العذاب عليهم بظلمهم أي بشركهم‏.‏ ‏{‏فهم لا ينطقون‏}‏أي ليس لهم عذر ولا حجة‏.‏ وقيل‏:‏ يختم على أفواههم فلا ينطقون؛ قاله أكثر المفسرين‏.‏

قوله ‏{‏ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه‏}‏أي يستقرون فينامون‏.‏ ‏{‏والنهار مبصرا‏}‏أي يبصر فيه لسعي الرزق‏.‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون‏}‏بالله‏.‏ ذكر الدلالة على إلهيته وقدرته أي ألم يعلموا كمال قدرتنا فيؤمنوا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 87 ‏:‏ 90 ‏)‏

‏{‏ ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين، وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون، من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون، ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ‏}‏

قوله ‏{‏ويوم ينفخ في الصور‏}‏أي واذكر يوم أو ذكرهم يوم ينفخ في الصور ومذهب الفراء أن المعنى‏:‏ وذلكم يوم ينفخ في الصور؛ وأجاز فيه الحذف والصحيح في الصور أنه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل قال مجاهد‏:‏ كهيئة البوق وقيل‏:‏ هو البوق بلغة أهل اليمن وقد مضى في الأنعام بيانه وما للعلماء في ذلك‏.‏ ‏{‏ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله‏}‏قال أبو هريرة‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله لما فرغ من خلق السماوات خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر بالنفخة‏)‏ قلت‏:‏ يا رسول الله ما الصور ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قرن والله عظيم والذي بعثني بالحق إن عظم دارة فيه كعرض السماء والأرض فينفخ فيه ثلاث نفخات النفخة الأولى نفخة الفزع والثانية نفحة الصعق والثالثة نفخة البعث والقيام لرب العالمين‏)‏ وذكر الحديث ذكره علي بن معبد والطبري والثعلبي وغيرهم، وصححه ابن العربي‏.‏ وقد ذكرته في كتاب التذكرة وتكلمنا عليه هنالك، وأن الصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان لا ثلاث، وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى نفخة الصعق لأن الأمرين لا زمان لهما؛ أي فزعوا فزعا ماتوا منه؛ أو إلى نفخة البعث وهو اختيار القشيري وغيره؛ فإنه قال في كلامه على هذه الآية‏:‏ والمراد النفخة الثانية أي يحيون فزعين يقولون ‏}‏من بعثنا من مرقدنا‏}‏ ؛ ويعاينون من الأمور ما يهولهم ويفزعهم؛ وهذا النفخ كصوت البوق لتجتمع الخلق في أرض الجزاء‏.‏ قاله قتادة وقال الماوردي‏}‏ويوم ينفخ في الصور‏}‏‏.‏ هو يوم النشور من القبور، قال وفي هذا الفزع قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه الإسراع والإجابة إلى النداء من قولهم‏:‏ فزعت إليك في كذا إذا أسرعت إلى ندائك في معونتك والقول الثاني‏:‏ إن الفزع هنا هو الفزع المعهود من الخوف والحزن؛ لأنهم أزعجوا من قبورهم ففزعوا وخافوا‏.‏ وهذا أشبه القولين‏.‏

قلت‏:‏ والسُنة الثابتة من حديث أبى هريرة وحديث عبدالله بن عمرو يدل على أنهما نفختان لا ثلاث؛ خرجهما مسلم وقد ذكرناهما في كتاب التذكرة وهو الصحيح إن شاء الله تعالى أنهما نفختان؛ قال الله ‏{‏ونفخ في الصور فصعق من السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ‏}‏ فاستثنى هنا كما استثنى في نفخة الفزع فدل على أنهما واحدة‏.‏ وقد روى ابن المبارك عن الحسن قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بين النفختين أربعون سنة الأولى يميت الله بها كل حي والأخرى يحيي الله بها كل ميت‏)‏ فإن قيل‏:‏ فإن قوله ‏{‏يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة‏} ‏ إلى أنقال ‏{‏فإنما هي زجرة واحدة‏}‏ وهذا يقتضي بظاهره أنها ثلاث قيل له‏:‏ ليس كذلك، وإنما المراد بالزجرة النفخة الثانية التي يكون عنها خروج الخلق من قبورهم؛ كذلك قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وابن زيد وغيرهم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هما صيحتان أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله، وأما الأخرى فتحيي كل شيء بإذن الله‏.‏ وقال عطاء‏}‏الراجفة‏}‏القيامة و‏{‏الرادفة‏}‏البعث‏.‏ وقال ابن زيد‏}‏الراجفة‏}‏الموت و‏{‏الرادفة‏}‏الساعة‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله ‏{‏إلا من شاء الله‏}‏اختلف في هذا المستثنى من هم‏.‏ ففي حديث أبي هريرة أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون إنما يصل الفزع إلى الأحياء؛ وهو قول سعيد بن جبير أنهم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش وقال القشيري‏:‏ الأنبياء داخلون في جملتهم؛ لأن لهم الشهادة مع النبوة وقيل‏:‏ الملائكة‏.‏ قال الحسن‏:‏ استثني طوائف من الملائكة يموتون بين النفختين قال مقاتل‏:‏ يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت‏.‏ وقيل‏:‏ الحور العين‏.‏ وقيل‏:‏ هم المؤمنون، لأن الله تعالى قال عقب هذا‏}‏من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون‏}‏وقال بعض علمائنا‏:‏ والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل‏.‏

قلت‏:‏ خفي عليه حديث أبي هريرة وقد صححه القاضي أبو بكر العربي فليعول عليه، لأنه نص في التعيين وغيره اجتهاد‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقيل غير هذا ما يأتي في الزمر

وقوله ‏{‏ففزع من في السماوات‏}‏ماض و‏{‏ينفخ‏}‏مستقبل فيقال‏:‏ كيف عطف ماض على مستقبل ‏؟‏ فزعم الفراء أن هذا محمول على المعنى؛ لأن المعنى‏:‏ إذا نفخ في الصور ففزع‏.‏ ‏{‏إلا من شاء الله‏}‏نصب على الاستثناء‏.‏ ‏{‏وكل أتوه داخرين‏}‏قرأ أبو عمر وعاصم والكسائي ونافع وابن عامر وابن كثير‏}‏آتـُوه‏}‏جعلوه فعلا مستقبلا‏.‏ وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة وحفص عن عاصم‏}‏وكل أتوه‏}‏مقصورا على الفعل الماضي، وكذلك قرأه ابن مسعود وعن قتادة ‏{‏وكل أتاه داخرين‏}‏قال النحاس‏:‏ وفي كتابي عن أبي إسحاق في القراءات من قرأ‏}‏وكل أتوه‏}‏وحده علي لفظ ‏{‏كل‏}‏ومن قرأ‏}‏أتوه‏}‏جمع على معناها، وهذا القول غلط قبيح؛ لأنه إذاقال ‏{‏وكل أتوه‏}‏فلم يوحد وإنما جمع، ولو وحد لقال‏}‏أتاه‏}‏ولكن منقال ‏{‏أتوه‏}‏جمع على المعنى وجاء به ماضيا لأنه رده إلي ‏{‏ففزع‏}‏ومن قرأ ‏{‏وكل آتوه‏}‏حمله على المعنى أيضا وقال ‏{‏أتوه‏}‏لأنها جملة منقطعة من الأول قال ابن نصر‏:‏ حكي عن أبي إسحاق رحمه الله ما لم يقله، ونص أبي إسحاق‏}‏وكل أتوه داخرين‏}‏ويقرأ‏}‏أتوه‏}‏فمن وحد فللفظ ‏{‏كل‏}‏ومن جمع فلمعناها‏.‏ يريد ما أتي في القرآن أو غيره من توحيد خبر ‏{‏كل‏}‏فعلى اللفظ أو جمع فعلى المعنى؛ فلم يأخذ أبو جعفر هذا المعنى قال المهدوي‏:‏ ومن قرأ ‏{‏وكل أتوه داخرين‏}‏فهو فعل من الإتيان وحمل على معنى ‏{‏كل‏}‏دون لفظها، ومن قرأ ‏{‏وكل آتوه داخرين‏}‏فهو اسم الفاعل من أتى يدلك على ذلك قوله ‏{‏وكلهم آتيه يوم القيامة فرادا‏} ‏ ومن قرأ ‏{‏وكل أتاه‏}‏حمله على لفظ ‏{‏كل‏}‏دون معناها وحمل ‏{‏داخرين‏}‏على المعني، ومعناه صاغرين، عن ابن عباس وقتادة‏.‏ وقد مضى في النحل

قوله ‏{‏وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب‏}‏قال ابن عباس‏:‏ أي قائمة وهي تسير سيرا حثيثا‏.‏ قال القتبي‏:‏ وذلك أن الجبال تُجمع وتُسير، فهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير؛ وكذلك كل شي عظيم وجمع كثير يقصر عنه النظر، لكثرته وبعد ما بين أطرافه، وهو في حسبان الناظر كالواقف وهو يسير قال النابغة وفي وصف جيش‏:‏

بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج

قال القشيري‏:‏ وهذا يوم القيامة؛ أي هي لكثرتها كأنها جامدة أي واقفة في مرأى العين وإن كانت في أنفسها تسير سير السحاب، والسحاب المتراكم يظن أنها واقفة وهي تسير أي تمر مر السحاب حتى لا يبقى منها شيء، فقال الله ‏{‏وسيرت الجبال فكانت سرابا‏}‏ ويقال‏:‏ إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة ترجع كلها إلي تفريغ الأرض منها، وإبراز ما كانت تواريه، فأول الصفات الاندكاك وذلك قبل الزلزلة؛ ثم تصير كالعهن المنفوش؛ وذلك إذا صارت السماء كالمهل، وقد جمع الله بينهما فقال ‏{‏يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن‏} ‏ ‏.‏ والحالة الثالثة أن تصير كالهباء وذلك أن تتقطع بعد أن كانت كالعهن‏.‏ والحالة الرابعة أت تنسف لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها لتبرز، فإذا نسفت فبإرسال الرياح عليها‏.‏ والحالة الخامسة أن الرياح ترفعها على وجه الأرض فتظهرها شعاعا في الهواء كأنها غبار، فمن نظر إليها من بعد حسبها لتكاثفها أجسادا جامدة، وهي بالحقيقة مارة إلا أن مرورها من وراء الرياح كأنها مندكة متفتتة‏.‏ والحالة السادسة أن تكون سرابا فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئا منها كالسراب قال مقاتل‏:‏ تقع على الأرض فتسوى بها‏.‏ ثم قيل هذا مثل، قال الماوردي‏:‏ وفيهما ضرب له ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها أنه مثل ضربه الله تعالى للدنيا يظن الناظر إليها أنها واقفة كالجبال، وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب؛ قال سهل بن عبدالله‏.‏ الثاني‏:‏ أنه مثل ضربه الله للإيمان تحسبه ثابتا في القلب وعمله صاعد إلى السماء‏.‏ الثالث‏:‏ أنه مثل ضربه الله للنفس عند خروج الروح والروح تسير إلى العرش‏.‏ ‏{‏صنع الله الذي أتقن كل شيء‏}‏أي هذا من فعل الله، وما هو فعل منه فهو متقن‏.‏ و‏{‏ترى‏}‏من رؤية العين ولو كانت من رؤية القلب لتعدت إلى مفعولين‏.‏ والأصل ترأى فألقيت حركة الهمزة على الراء فتحركت الراء وحذفت الهمزة، وهذا سبيل تخفيف الهمزة إذا كان قبلها ساكن، إلا أن التخفيف لازم لترى‏.‏ وأهل الكوفة يقرؤون‏}‏تحسَبها‏}‏بفتح السين وهو القياس؛ لأنه من حسب يحسب إلا أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافها أنه قرأ بالكسر في المستقبل، فتكون على فعل يفعل مثل نعم ينعم وبئس يبئس وحكى يئس ييئس من السالم، لا يعرف في كلام العرب غير هذه الأحرف ‏{‏وهي تمر مر السحاب‏}‏تقديره مرا مثل مر السحاب، فأقيمت الصفة مقام الموصوف والمضاف مقام المضاف إليه؛ فالجبال تزال من أماكنها من على وجه الأرض وتجمع وتسير كما تسير السحاب، ثم تكسر فتعود إلى الأرض كماقال ‏{‏وبست الجبال بسا‏} ‏ ‏{‏صنع الله‏}‏عند الخليل وسيبويه منصوب على أنه مصدر؛ لأنه لما قال عز وجل ‏{‏وهي تمر مر السحاب‏}‏دل على أنه قد صنع ذلك صنعا‏.‏ ويجوز النصب على الإغراء؛ أي انظروا صنع الله‏.‏ فيوقف على هذا على ‏{‏السحاب‏}‏ولا يوقف عليه على التقدير الأول‏.‏ ويجوز رفعه على تقدير ذلك صنع الله‏.‏ ‏{‏الذي أتقن كل شيء‏}‏أي أحكمه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رحم الله من عمل عملا فأتقنه‏)‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ معناه أحسن كل شيء والإتقان الإحكام؛ يقال‏:‏ رجل تقن أي حاذق بالأشياء وقال الزهري‏:‏ أصله من ابن تقن، وهو رجل من عاد لم يكن يسقط له سهم فضرب به المثل؛ يقال‏:‏ أرمى من ابن تقن ثم يقال لكل حاذق بالأشياء تقن‏.‏ ‏{‏إنه خبير بما تفعلون‏}‏والباقون تفعلون بالتاء على الخطاب قراءة الجمهور وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالياء‏.‏

قوله ‏{‏من جاء بالحسنة فله خير منها‏}‏قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ الحسنة لا إله إلا الله‏.‏ وقال أبو معشر‏:‏ كان إبراهيم يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ولا يستثني أن الحسنة لا إله إلا الله محمد رسول الله‏.‏ وقال علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم‏:‏ غزا رجل فكان إذا خلا بمكان قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له فبينما هو في أرض الروم في أرض جلفاء وبردى رفع صوته فقال‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له فخرج عليه رجل على فرس عليه ثياب بيض فقال له‏:‏ والذي نفسي بيده إنها الكلمة التي قال الله تعالي‏{‏ومن جاء بالحسنة فله خير منها‏}‏و روى أبو ذر قال‏:‏ قلت يا رسول الله أوصني، قال‏:‏ ‏(‏اتق الله وإذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها‏)‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏من أفضل الحسنات‏)‏ وفي رواية قال‏:‏ ‏(‏نعم هي أحسن الحسنات‏)‏‏"‏ ذكره البيهقي‏"‏، وقال قتادة‏}‏من جاء بالحسنة‏}‏بالإخلاص والتوحيد‏.‏ وقيل‏:‏ أداء الفرائض كلها‏.‏

قلت‏:‏ إذا أتى بلا إله إلا الله على حقيقتها وما يجب لها - على ما تقدم بيانه في سورة إبراهيم فقد أتى بالتوحيد والإخلاص والفرائض‏.‏

قوله ‏{‏فله خير منها‏}‏قال ابن عباس‏:‏ أي وصل إليه الخير منها؛ وقاله مجاهد وقيل‏:‏ فله الجزاء الجميل وهو الجنة وليس ‏{‏خير‏}‏للتفضيل قال عكرمة وابن جريج‏:‏ أما أن يكون له خير منها يعني من الإيمان فلا فإنه ليس شيء خيرا ممن قال لا إله إلا الله ولكن له منها خير وقيل ‏{‏فله خير منها‏}‏للتفضيل أي ثواب الله خير من عمل العبد وقوله وذكره، وكذلك رضوان الله خير للعبد من فعل العبد، قاله ابن عباس وقيل‏:‏ ويرجع هذا إلي الإضعاف فإن الله تعالى يعطيه بالواحدة عشرا؛ وبالإيمان في مدة يسيرة الثواب الأبدي قاله محمد بن كعب وعبدالرحمن بن زيد ‏{‏وهم من فزع يومئذ آمنون‏}‏قرأ عاصم وحمزة والكسائي ‏{‏فزع يومئذ‏}‏بالإضافة‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ وهذا أعجب إلي لأنه أعم التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم، وإذاقال ‏{‏من فزع يومئذ‏}‏صار كأنه فزع دون فزع‏.‏ قال القشيري‏:‏ وقرئ‏}‏من فزع‏}‏بالتنوين ثم قيل يعني به فزعا واحدا كماقال ‏{‏لا يحزنهم الفزع الأكبر‏}‏ وقيل‏:‏ عنى الكثرة لأنه مصدر والمصدر صالح للكثرة‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا تكون القراءتان بمعنى‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ومن قرأ‏}‏من فزع يومئذ‏}‏بالتنوين انتصب ‏{‏يومئذ‏}‏بالمصدر الذي هو ‏{‏فزع‏}‏ويجوز أن يكون صفة لفزع ويكون متعلقا بمحذوف؛ لأن المصادر يخبر عنها بأسماء الزمان وتوصف بها، ويجوز أن يتعلق باسم الفاعل الذي هو ‏{‏آمنون‏}‏‏.‏ والإضافة على الإتساع في الظروف، ومن حذف التنوين وفتح الميم بناه لأنه ظرف زمان، وليس الإعراب في ظرف الزمان متمكنا، فلما أضيف إلي غير متمكن ولا معرب بني‏.‏ وأنشد سيبويه‏:‏

على حين ألهى الناس جل أمورهم فندلا رزيق المال ندل الثعالب

قوله ‏{‏ومن جاء بالسيئة‏}‏أي بالشرك، قاله ابن عباس والنخعي وأبو هريرة ومجاهد وقيس بن سعد والحسن، وهو إجماع من أهل التأويل في أن الحسنة لا إله إلا الله، وأن السيئة الشرك في هذه الآية‏.‏ ‏{‏فكبت وجوههم في النار‏}‏قال ابن عباس‏:‏ ألقيت وقال الضحاك‏:‏ طرحت، ويقال كببت الإناء أي قلبته على وجهه، واللازم من أكب، وقلما يأتي هذا في كلام العرب ‏{‏هل تجزون‏}‏أي يقال لهم هل تجزون ثم يجوز أن يكون من قول الله، ويجوز أن يكون من قول الملائكة ‏{‏إلا ما كنتم تعملون‏}‏أي إلا جزاء أعمالكم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 91 ‏:‏ 93 ‏)‏

‏{‏ إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين، وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون ‏}‏

قوله ‏{‏إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها‏}‏يعني مكة التي عظم الله حرمتها؛ أي جعلها حرما آمنا؛ لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصاد فيها صيد، ولا يعضد فيها شجر؛ على ما تقدم بيانه في غير موضع وقرأ ابن عباس‏}‏التي حرمها‏}‏نعتا للبلدة وقراءة الجماعة ‏{‏الذي‏}‏وهو في موضع نصب نعت لـ‏{‏رب‏}‏ولو كان بالألف واللام لقلت المحرِّمِها؛ فإن كانت نعتا للبلدة قلت المحرمة هو؛ لا بد من إظهار المضمر مع الألف واللام؛ لأن الفعل جرى على غير من هول؛ فإن قلت الذي حرمها لم تحتج أن تقول هو‏.‏ ‏{‏وله كل شيء‏}‏خلقا وملكا ‏{‏وأمرت أن أكون من المسلمين‏}‏أي من المنقادين لأمره، الموحدين له

قوله ‏{‏وأن أتلو القرآن‏}‏أي وأمرت أن أتلو القرآن، أي أقرأه ‏{‏فمن اهتدى‏}‏فله هدايته ‏{‏ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين‏}‏فليس على إلا البلاغ نسختها آية القتال‏.‏ قال النحاس‏}‏وأن أتلو‏}‏نصب بأن قال الفراء‏:‏ وفي إحدى القراءتين ‏{‏وأنِ اتلُ‏}‏وزعم أنه في موضع جزم بالأمر فلذلك حذف منه الواو، قال النحاس‏:‏ ولا نعرف أحدا قرأ هذه القراءة، وهي مخالفة لجميع المصاحف‏.‏

قوله ‏{‏وقل الحمد لله‏}‏أي على نعمه وعلى ما هدانا ‏{‏سيريكم آياته‏}‏أي في أنفسكم وفي غيركم كماقال ‏{‏سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم‏}‏ ‏.‏ ‏{‏فتعرفونها‏}‏أي دلائل قدرته ووحدانيته في أنفسكم وفي السماوات وفي الأرض؛ نظيره قوله ‏{‏وفي الأرض آيات للموقنين‏.‏ وفي أنفسكم أفلا تبصرون‏} ‏.‏ قرأ أهل المدينة وأهل الشام وحفص عن عاصم بالتاء على الخطاب؛ لقوله ‏{‏سيريكم آياته فتعرفونها ‏{‏فيكون الكلام على نسق واحد‏.‏ الباقون بالياء على أن يرد إلى ما قبله ‏{‏فمن اهتدى‏}‏فأخبر عن تلك الآية‏.‏